فصل: باب: مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الغَزْوِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب‏:‏ مَنْ قَالَ أَنَا ابُن فُلان

وَقَالَ سَلَمَةُ‏:‏ خُذْهَا، وَأَنَا ابْنُ الأكْوَعِ‏.‏

فيه‏:‏ الْبَرَاءَ، أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوَلِّ يوم حنين، كَانَ أَبُو سُفْيَانَ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ، نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏أَنَا النَّبِىُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبْ‏}‏ ‏[‏قَالَ‏]‏‏:‏ فَمَا رُئِىَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى ‏(‏النوادر‏)‏ قال محمد بن عبد الحكم‏:‏ لا بأس بالافتخار عند الرمى، والانتماء بالقبائل، والرجز، وكل ذلك إذا رمى بالسهم فظنه مصيبًا أن يصيح عليه، وبالذكر لله أحب إلى، وإن قال‏:‏ أنا الفلانى لقبيلته فذلك جائز كله مستحب‏.‏

وفيه إغراء لبعضهم ببعض، وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أنا ابن العواتك‏)‏ ورمى ابن عمر بين الهدفين فقال‏:‏ ‏(‏أنا لها، أنا لها، وقال‏:‏ أنا أبو عبد الرحمن‏.‏

فقال‏:‏ أنا الغلام الهذلي‏.‏

وكان مكحول فارسيا وكانت لغته بالدال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏خذها، وأنا ابن الأكوع‏)‏ أى‏:‏ أنا ابن المشهور فى الرمى بالإصابة عن القوس، وهذا على سبيل الفخر؛ لأن العرب تقول‏:‏ أنا ابن نجدتها‏.‏

أى‏:‏ القائم بالأمر‏.‏

وأنا ابن جلاء، يريد المنكشف للأمر الواضح الجلي‏.‏

وقال الهذلى‏:‏ فرميت فوق ملاءة محبوكة وأبنت للأشهاد حرة أدعى يقول‏:‏ أبنت لهم قولى‏:‏ خذها وأنا ابن فلان، و ‏(‏حرة‏)‏ يعنى ساعة أدعى إلى قومى، ولا يقول مثل هذا إلا الشجاع البطل، والعادة عند العرب أن يعلم الشجاع نفسه بعلامة فى الحرب بتميز بها من غيره ليقصده من يدعى الشجاعة، فأعلم النبى نفسه بالنبوة المعصومة، وبنسبه الطاهر فقال‏:‏ أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب ليقوى قلب من تمكن الشيطان منه فاستزله وانهزم، ولذلك نزل صلى الله عليه وسلم بالأرض؛ لأن النزول غاية ما يكون من الطمأنينة، والثقة بالله تعالى ليقتدى به المؤمنون فيثبتوا؛ لأن الرسول لا يجوز عليه من كيد الشيطان أن يقذف فى قلبه خوفا يزل به قدمه، أو ينكص على عقبيه فينهزم؛ لأنه على بصيرة من أمره، ويقين من نصر الله له، وإتمام أمره، ومنعه من عدوه، وقد تقدم هذا المعنى‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وقد اختلف السلف‏:‏ هل يعلم الرجل الشجاع نفسه عند لقاء العدو‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ ذلك جائز على ما دل عليه هذا الحديث، وقد أعلم نفسه حمزة بن عبد المطلب يوم بدر بريشة نعامة فى صدره، وأعلم نفسه أبو دجانة بعصابة محضر النبى صلى الله عليه وسلم وكان الزبير يوم بدر معتم بعمامة صفراء، فنزلت الملائكة معتمين بعمائم صفر‏.‏

وقال ابن عباس فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ‏(‏إنهم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم مسومين بالصوف، فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف، وكره آخرون التسويم والإعلام فى الحرب، وقالوا‏:‏ فعل ذلك من الشهرة، ولا ينبغى للرجل المسلم أن يشهر نفسه فى خير ولا شر، قالوا‏:‏ وإنما ينبغى للمؤمن إذا فعل شيئًا لله أن يخفيه عن الناس؛ فإن الله لا يخفى عليه شيء، روى هذا عن بريدة الأسلمي‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب أنه لا بأس بالتسويم والإعلام فى الحرب إذا فعله الفاعل من أهل البأس والنجدة، وهو قاصد بذلك شد الناس على أن لا ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ والصبر للعدو والثبات لهم فى اللقاء، وهو يريد ترهيب العدو إذا عرفوا مكانه، وإعلام من معه من المسلمين أنه لا يخذلهم ولا يسلمهم‏.‏

وأما إذا لم يرد ذلك وقصد به الافتخار فهذا المعنى هو المكروه؛ لأنه ليس ممن قاتل لتكون كلمة الله هى العليا وإنما قاتل للذكر‏.‏

باب‏:‏ إِذَا نَزَلَ الَعُدُّو عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ

فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ بْن مُعَاذٍ، بَعَثَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ‏)‏، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ‏)‏، قَالَ‏:‏ فَإِنِّى أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه جواز التحكيم فى أمر الحرب وغيره، وذلك رد على الخوارج الذين أنكروا التحكيم على عليّ‏.‏

وفيه‏:‏ أن التحاكم فى الدنيا إلى رجل معلوم الصلاح والخير لازم للمتحاكمين‏.‏

فكيف بيننا وبين عدونا فى الدين‏؟‏ وأن المال أخف مؤنة من النفس والأهل‏.‏

وفيه‏:‏ أمر السلطان والحاكم بإكرام السيد من المسلمين، وجواز إكرام أهل الفضل فى مجلس السلطان الأكبر والقيام فيه لغيره من أصحابه وسادة أتباعه، وإلزام الناس كافة القيام إلى سيدهم‏.‏

وقد اعترض هذا من قال‏:‏ إنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار بهذا خاصة؛ لأنه سيد الأنصار، وهذا لا دليل عليه، بل هو سيد من حضر من أنصارى ومهاجرى؛ لأنه قال فيه قولا مجملا لم يخص فيه أحدًا ممن بين يديه من غيره، وسيأتى فى كتاب الاستئذان تأويل حديث أبى سعيد مع الحديث العارض إن شاء الله‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فيه البيان عن أن لإمام المسلمين إذا حاصر العدو، فسألوهم أن ينزلوهم على حكم رجل من المسلمين، مرضية أمانته على الإسلام وأهله، موثوق بعقله ودينه أن يجيبهم إلى ذلك، وإن كان الرجل غائبًا عن الجيش؛ لأن سعدًا لم يشهد حصار رسول الله لبنى قريظة، حين سألوا النبى صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا على حكمه، وكان بالمدينة يعالج كلمه الذى كلمه بالخندق، فأرسل فيه النبى صلى الله عليه وسلم حتى حكم فيهم، فإن وافق حكمه حكم الله ورسوله أمضى، وإن خالف ذلك رد حكمه‏.‏

وقيل للنازلين على حكمه‏:‏ إن رضيتم حكم غيره يحكم فيكم بحكم يجوز فى ديننا أمضينا حكمه، وإن كرهتم ذلك رددناكم إلى حصنكم، والحكم الذى لا يجوز لأحد الفريقين الرجوع عنه هو أن يحكم بقتلهم، وسبى ذراريهم ونسائهم، وقسم أموالهم، إن كان ذلك هو النظر المسلمين، وإن حكم باسترقاق مقاتلتهم، أو المن عليهم، ووضع الخراج على رءوسهم فجائز بعد أن يكون نظرًا للمسلمين‏.‏

وأما الحكم الذى يرد ولا يمضى‏:‏ فهو أن يحكم أنهم يقروا فى أرض المسلمين كفار بغير خراج يؤدونه إلى الإمام ولا جزية؛ لأنه غير جائز أن يقيم كافر فى أرض الإسلام سنة بغير جزية يؤديها عن رقبته، وإن سألوهم أن ينزلهم على حكم الله أو يحكم فيهم بحكم الله؛ فإنه لا ينبغى أن يجيبهم إلى ذلك لصحة الخبر الذى رواه سفيان عن علقمة ابن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال‏:‏ ‏(‏كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على جيش وصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا وقال‏:‏ اغزوا بسم الله فى سبيل الله قاتلوا من كفر إلى قوله وإن قاتلت أهل حصن فأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله، واجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ خير أن تخفر ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تعلم أصبت حكم الله فيهم أم لا‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف جاز للإمام أن ينزلهم على حكم رجل، مرضى دينه لا يتجاوز فيهم حكم الله وحكم رسوله، ثم إنه يقول‏:‏ لا يجوز للإمام أن يجيبهم إذا سألوه أن ينزلهم على حكم الله وحكم رسوله، وهذان قولان يفسد أحدهما صاحبه‏.‏

قيل له‏:‏ ليس كما توهمت، فأما كراهيتها للإمام أن يجيب من سأله النزول على حكم الله وحكم رسوله الذى هو الحق عنده، فإن ذلك لا يعلمه إلا علام الغيوب، وإنما يحكمون إذا كانوا أهل دين وأمانة بأصلح ما حضرهم فى الوقت، ولا سبيل إلى الحكم بعلم الله، فهذا معنى نهيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وإن هم حكموا على حكم رجل من المسلمين ثم بدا لهم فى الرضا بحكمه قبل أن يحكم بينهم، وسألوا الإمام غيره ممن هو رضا، فللإمام أن يجيبهم إلى ذلك، وذلك أن رسول الله ذكر عنه أن بنى قريظة كانوا نزلوا على حكمه، ثم سألوه أن يجعل الحكم لسعد ابن معاذ، فأجابهم إلى ذلك، فأما إذا حكم بينهم الذى نزلوا على حكمه إذا لم يخالف حكمه ما يجوز فى ديننا‏.‏

وفيه أن الإمام إذا ظهر من قوم من أهل الحرب الذى بينه وبينهم مواعدة وهدنة على خيانة وغدر أن ينبذ إليهم على سواء وأن يحاربهم، وذلك أن قريظة كانوا أهل مواعدة للنبى قبل الخندق‏.‏

فلما كان يوم الأحزاب ظاهروا قريشًا وأبا سفيان على رسول الله وراسلوهم‏:‏ إنَّا معكم، وأثبتوا مكانكم‏.‏

فأحل الله بذلك من فعلهم قتالهم ومنابذتهم على سواء، وفيهم نزلت هذه الآية‏:‏ ‏(‏وإما تخافن من قوم خيانة‏}‏ الآية‏.‏

فحاصرهم رسول الله والمسلمون معه، حتى نزلوا على حكم سعد‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن الإنسان قد يوافق برأيه ما فى حكم الله ولا يعلم ذلك إلا على لسان نبى كما قال النبى لسعد‏.‏

باب‏:‏ قَتْلِ الأَسِيرِ وَقَتَلِ الصَّبْرِ

فيه‏:‏ أَنَسِ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ، جَاءَه رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ، مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اقْتُلُوهُ‏)‏‏.‏

قد تقدم القول فى قتل الأسرى، وأن الإمام مخير بين القتل والمن، وكذلك فعل الرسول يوم فتح مكة؛ قتل ابن خطل ومقيس بن صبابة والقينتين ومن على الباقين‏.‏

وفيه أن للإمام أن يقتل صبرًا من حاد الله ورسوله وكان فى قتله صلاحًا للمسلمين، كما قتل يوم بدر عقبة بن أبى معيط، قام إليه على بن أبى طالب فقتله صبرًا‏.‏

فقال‏:‏ من للصبية يا محمد‏؟‏ قال النار‏.‏

وقتل النضر بن الحارث، وكذلك فعل سعد بن معاذ فى بنى قريظة، وهذا الحديث حجة لقول جمهور العلماء أن مكة فتحت عنوة، وقد تقدم ذلك فى كتاب الحج‏.‏

ومن الآثار الدالة على ذلك ما ذكره أبو عبيد قال‏:‏ حدثنا أبو النضر، عن سليمان بن المغيرة، حدثنا ثابت البنانى، عن عبد الله بن رباح، عن أبى هريرة أنه حدث بفتح مكة قال‏:‏ ‏(‏ثم أقبل رسول الله حين قدم مكة، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالد ابن الوليد على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الحسر، وأخذوا بطن الوادى، فأمرنى رسول الله، فناديت بالأنصار فلما طافت به قال‏:‏ أترون أوباش قريش وأتباعهم‏؟‏ ثم قال‏:‏ بيده إحداهما على الأخرى-‏:‏ احصدوهم حصدًا، حتى توافونى بالصفا‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم من شاء إلا قتله‏.‏

فجاء أبو سفيان بن حرب فقال‏:‏ يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، فلا قريش بعد اليوم‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن‏)‏‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا هشيم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، قال‏:‏ قال رسول اله يوم فتح مكة‏:‏ ‏(‏ألا لا يجهزن على جريح، ولا يتبع مدبر، ولا يقتلن أسير، ومن أغلق بابه فهو آمن‏)‏‏.‏

وهذا بين فى دخولها عنوة، ومن خالف ذلك، واعتل بأن الرسول لم يحكم فيها بحكم العنوة من الغنم لها، واسترقاق أهلها، فلم تكن عنوة، فقد علم من تخصيص مكة، ومباينتها فى أحكامها لسائر البلاد، ما فيه مقنع من أنها حرام، وأنها مناخ من سبق فلا تباع رباعها، ولا تكرى بيوتها، ولا تحل لقطتها، ولا تحل غنائمها، فليست تشبه مكة شيئًا من البلاد‏.‏

باب‏:‏ هَلْ يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْسِرْ وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَينِ عِنْدَ القَتْلِ

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأنْصَارِىَّ؛ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ، وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ، ذُكِرُوا لِحَىٍّ مِنْ هُذَيْلٍ، يُقَالُ لَهُمْ‏:‏ بَنُو لَحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَىْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا‏:‏ هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ، لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمُ‏:‏ انْزِلُوا، وَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَلا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا، قَالَ عَاصِمُ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ‏:‏ أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لا أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِى ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِى سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأنْصَارِىُّ وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ‏:‏ هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لا أَصْحَبُكُمْ إِنَّ ‏[‏لِى‏]‏ فِى هَؤُلاءِ لأسْوَةً يُرِيدُ الْقَتْلَى، فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَأَبَى، فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، فَقَالَت ابْنَة الْحَارِثِ أَنَهُ اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنًا لِى، وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ، قَالَتْ‏:‏ فَوَجَدْتُهُ يُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَالْمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِى وَجْهِى، فَقَالَ‏:‏ تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأفْعَلَ ذَلِكَ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِى يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِى الْحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِى الْحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ‏:‏ ذَرُونِى أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ لَوْلا أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِى جَزَعٌ لَأَصَلْتٌهَا، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا‏:‏ مَا أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإلَهِ وَإِنْ يَشَأْ عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ يَوْمَ أُصِيبَ، فَأَخْبَرَ الرَّسُولُ أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ، وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبُعِثَ اللَّه عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أنه جائز أن يستأنس الرجل إذا أراد أن يأخذ برخصة الله فى إحياء نفسه، كما فعل خبيب، وصاحباه‏.‏

وقال الحسن البصرى‏:‏ لا بأس أن يستأنس الرجل إذا خاف أن يغلب‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ لا بأس للأسير بالشدة والإبائة من الأسر والأنفة من أن يجرى ملك كافر كما فعل عاصم وأحد صاحبى خبيب، حتى أبى من السير معهم، حتى قتلوه‏.‏

وقال الثورى‏:‏ أكره للأسير المسلم أن يمكن من نفسه إلا مجبورًا‏.‏

وفيه استنان الركعتين لكل من قتل صبرًا‏.‏

وفيه استنان الاستحداد لمن أسر، ولمن يقتل، والتنظيف لمن ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ بعد القتل لئلا يطلع منه على قبح عورة، وفيه‏:‏ أداء الأمانة إلى المشرك وغيره، وفيه‏:‏ التورع من قتل أطفال المشركين رجاء أن يكونوا مؤمنين‏.‏

وفيه‏:‏ الامتداح بالشعر فى حين ينزل بالمرء هوان فى دين أو ذلة ليسلى بذلك نفسه، ويرغم بذلك أنف عدوه، ويجدد فى نفسه صبرًا وأنفة‏.‏

وأما قول جويرية‏:‏ رأيت فى يده قطف عنب، وما بمكة من ثمرة، فهذا ممكن أن يكون آية لله تعالى على الكفار، وبرهانًا لنبيه، وتصحيحًا لرسالته عند الكافرة وأهل بلدها الكفار من أجل ما كانوا عليه من تكذيب الرسول‏.‏

فأما من يذكر اليوم مثل هذا بين ظهرانى المسلمين فليس لذلك وجه؛ إذ المسلمون كلهم قد دخلوا فى دين الله أفواجًا، وآمنوا بمحمد، وأيقنوا به، فأى معنى لإظهار آية عندهم، وعلى ما يستشهد بها فيهم؛ لأنه قد يشك المرتاب ومن فى قلبه غرارة وجهل‏.‏

يقول‏:‏ إذا جاز ظهور هذه الآيات من غير نبى، فكيف يصدقها من نبى وغيره يأتى بها، فلو لم يكن فى هذا إلا رفع هذا الريب عن قلوب أهل التقصير والغرارة والجهل لكان قطع الذريعة واجبًا، والمنع منها لازمًا لهذه العلة، فكيف ولا معنى لها فى الإسلام بعد تأصله، وعند أهل الإيمان بعد تمكنه، إلا أن يكون من ذلك ما لا يخرق عادة، ولا يقلب عينًا، ولا يخرج عن معقول البشر، مثل أن يكرم الله عبدًا بإجابة دعوة من حينه فى أمر عسير وسبب ممتنع، ودفع بأس نازل وشنعة قد أظلت فيصرفها بلطفه عن وليه، فهذا ومثله مما يظهر فيه فضل الفاضل وكرامة الولى عند ربه، وقد أخبرنى أبو عمران الفقيه الحافظ بالقيروان أنه وقف أبا بكر بن الطيب الباقلانى على تجويزه لهذه المعجزات، فقال له‏:‏ أرأيت إن قالت لنا المعتزلة‏:‏ إن برهاننا على تصحيح مذهبنا، وما ندعيه من المسائل المخالفة لكم ظهور هذه الآية على يدى رجل صالح منا‏.‏

قال أبو عمران‏:‏ فأطرق عنى ومطلنى بالجواب، ثم اقتضيته فى مجلس آخر، فقال لى‏:‏ كل ما أعترض من هذه الأشياء شيئًا من الدين أو السنن أو ما عليه صحيح العلم، فلا يقبل أصلا على أى طريق جاء‏.‏

فهذا آخر ما رجع إليه ابن الطيب‏.‏

أما حماية الله عاصمًا ‏(‏من الدبر‏)‏ فلئلا ينتهك حرمته عدوه، فهذه الكرامة التى تجوز، ومثل ذلك غير منكر؛ لأن الله حماه على طريق العادة، ولم يكن قلب عين ولا خرق عادة، فهذا ومثله جائز وفيه علامة من علامات النبوة بإجابة دعوة عاصم بأن أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالخبر قبل بلوغه على ألسنة المخلوقين‏.‏

والدبر جماعة النحل لا واحد لها، وكذلك الثوم والخشرم لا واحد لشيء منها، كما يقال لجماعة الجراد‏:‏ رجل‏.‏

ولجماعة النعام‏:‏ خيط، ولجماعة الظباء‏:‏ إجل، وليس لشيء من ذلك واحد‏.‏

باب‏:‏ فَكَاكِ الأَسِيرِ

فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فُكُّوا الْعَانِىَ، يَعْنِى الأسِيرَ، وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو جُحَيْفَةَ، قُلْتُ لِعَلِىٍّ‏:‏ هَلْ عِنْدَكُمْ شَىْءٌ مِنَ الْوَحْىِ إِلا مَا فِى كِتَابِ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، وَالَّذِى فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلا فِى الْقُرْآنِ، وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ‏:‏ ‏[‏وَمَا فِى الصَّحِيفَةِ‏؟‏‏]‏ قَالَ‏:‏ الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ‏.‏

فكاك الأسير فرض على الكفاية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فكوا العاني‏.‏

وعلى هذا كافة العلماء؛ وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ فكاك كل أسير من أسرى المسلمين من بيت المال‏.‏

وبه قال إسحاق، وروى عن ابن الزبير أنه سأل الحسن بن على عن فكاك الأسير، قال‏:‏ على الأرض التى يقاتل عليها‏.‏

وروى أشهب وابن نافع عن مالك أنه سئل‏:‏ أواجب على السلمين افتداء من أسر منهم‏؟‏ قال‏:‏ نعم، أليس واجب عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذهم، فكيف لا يفدونهم بأموالهم‏؟‏ وقال أحمد‏:‏ يفادون بالرءوس، وأما بالمال فلا أعرفه، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فكوا العاني‏.‏

عموم فى كل ما يفادى به، فلا معنى لقول أحمد، وقد قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ إذا خرج الذمى بالأسير من المسلمين فلا يحل للمسلمين أن يردوه إلى الكفر، ليفادوه بما استطاعوا‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يأتوكم أسارى تفادوهم‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أطعموا الجائع‏)‏ هو فرض على الكفاية أيضًا، ألا ترى رجلا يموت جوعًا، وعندك ما تجيبه به، بحيث لا يكون فى ذلك الموضع أحد غيرك، الفرض عليك فى إحياء نفسه، وإمساك رمقه، وإذا ارتفعت حال الضرورة كان ذلك ندبًا، وسيأتى شيء من هذا المعنى فى كتاب الأطعمة إن شاء الله وأما قوله‏:‏ ‏(‏وعودوا المريض‏)‏‏.‏

فهو محمول على الحض والندب إلى التواخى والتآلف، ويحتمل أن يكون من فرض الكفاية كسائر الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما يمين على أن ما عنده إلا كتاب الله أو فهما يعطيه الله رجلا، فهو دليلا على صحة قول مالك‏:‏ إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما هو نور وفهم يضعه الله فى قلب من يشاء‏.‏

فمن أنكر هذا على مالك فلينكره على عليّ‏.‏

وفيه أن كتاب الله أصل العلم، وأن الفهم إنما هو عنه، وعن حديث رسول الله المبين له، وقوله‏:‏ والذى فلق الحبة وبرأ النسمة، هو من أيمان العرب‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ فلق الحبة‏:‏ شقها فى الأرض حتى نبتت ثم أثمرت فكان منها حب كثير، وكل شيء شققته باثنين فقد فلقته، ومنه قوله‏:‏ ‏(‏فالق الحب والنوى ‏(‏والنسمة‏:‏ كل ذات نفس فهى نسمة، وسميت نسمة لتنسمها الهواء، وبرأ الله الخلق برءًا‏:‏ خلقهم‏.‏

باب‏:‏ فِدَاءِ المشْرِكِينَ

فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ رِجَالا مِنَ الأنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لابْنِ أُخْتِنَا الْعَبَّاس فِدَاءَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهَمًا‏)‏‏.‏

وقال أَنَسٍ، أُتِىَ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَجَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِى، فَإِنِّى فَادَيْتُ نَفْسِى، وَفَادَيْتُ عَقِيلا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏خُذْ‏)‏، فَأَعْطَاهُ فِى ثَوْبِهِ‏.‏

وفيه‏:‏ جُبَيْرٍ بْنُ مطعم، وَكَانَ جَاءَ فِى أُسَارَى بَدْرٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، يَقْرَأُ فِى الْمَغْرِبِ‏:‏ والطُّور‏.‏

قال المهلب‏:‏ أسر العباس يوم بدر، وكان غنيا ففدى نفسه من القتل، وفدى عقيلا بمال، ثم بقى على حاله بمكة إلى زمن خيبر، وقيل‏:‏ إنه أسلم سنة ثمان قبل الفتح، وإنما سأل الأنصار الذين أسروا العباس أن يتركوا فداءه بمكان عمومه من النبى صلى الله عليه وسلم إكرامًا للنبى بذلك، فأبى صلى الله عليه وسلم من ذلك، وأراد توهين المشركين بالغرم، وأن تضعف قوتهم بأخذ المال منهم‏.‏

وقيل‏:‏ إنه كان يداين فى ذلك العباس، وبقى عليه الدين إلى وقت إسلامه، ولذلك قال للنبى‏:‏ أعطنى؛ فإنى فاديت نفسى وفاديت عقيلا، فغرم النبى صلى الله عليه وسلم ما تحمله العباس من ذلك بعد إسلامه مما أفاء الله على رسوله، والترجمة صحيحة فى جواز مفاداة المشركين من أيدى المسلمين، وأن ذلك مباح بعد الإثخان، ومفاداة العباس لنفسه ولعقيل كان قبل الإثخان، فعاتب الله نبيه على ذلك فلا تجوز المفاداة إلا بعد الإثخان، وقلة قوة المشركين على المسلمين، أو لوجه من وجوه الصلاح يراه الإمام للمسلمين فى ذلك‏.‏

وكذلك حديث جبير بن مطعم فيه جواز فداء الأسرى المشركين؛ لأن جبيرًا جاء فى فداء أسارى بنى نوفل رهطه، فأطلقوا له بالفداء، وكان ذلك قبل الإثخان أيضًا، وقد تقدم اختلاف العلماء فى فداء الأسرى أو المن عليهم أو قتلهم فى باب‏)‏ فإما منا بعد وإما فداء‏}‏‏.‏

وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ لم يأذن الرسول للأنصار فى أسرى بدر لكفرهم، وشدة وطأتهم، ألا ترى أنه عوتب فى الفداء حتى يثخن فى الأرض، فكيف يأذن فى ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ حتى يثخن أدبًا لهم، وإن كانت الأنصار قد طابت أنفسها، وشفع لأهل هوازن للرضاع الذى كان له فيهم، كما مَنَّ على أهل مكة بإسلامهم وتركه مكة بما فيها من جميع الأموال للرحم‏.‏

باب‏:‏ الحَرْبِىّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الإِسْلاَمِ بِغَيرِ أَمَان

- فيه‏:‏ سَلَمَةَ، أَتَى النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، عَيْنٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ فِى سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اطْلُبُوهُ فَاقْتُلُوهُ‏)‏، فَقَتَلَهُ، فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا الحديث أصل أن الجاسوس الحربى يقتل، وعلى هذا جماعة العلماء، واختلفوا فى الحربى يدخل دار الإسلام بغير أمان، فقال مالك‏:‏ هو فيء لجميع المسلمين‏.‏

وهو قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، وقال محمد‏:‏ هو لمن وجده‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ هو فيء إلا أن يسلم قبل أن يظفروا به‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وظاهر الحديث يدل أنه لمن وجده؛ لأن نبى الله إنما أعطى سلبه لسلمة ابن الأكوع وحده؛ لأنه كان قتله‏.‏

قال غيره‏:‏ ومن قال‏:‏ إنه فيء فلأنه مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، من باب الغنائم إلى باب الفيء، والفيء للإمام أن يصنع فيه ما شاء حيث شاء، ومن قال‏:‏ هو لمن وجده حكم له بحكم الغنائم أنها لمن أخذها بعد الخمس‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ القياس أن يكون لمن وجده، وفيه الخمس؛ لأنه لم يؤخذ بقوة من المسلمين، واختلفوا فى الحربى يدخل دار الإسلام، ويقول‏:‏ جئت مستأمنا، فقال مالك‏:‏ الإمام مخير فى ذلك بما يراه فيه‏.‏

وهو قول الأوزاعي‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ هو فيء‏.‏

وروى ابن وهب عن مالك فى مركب تطرحه الريح إلى ساحل بحر المسلمين، فيقولون‏:‏ نحن تجار، أنهم فيء ولا يخمسون، واحتج الشافعى بحديث سلمة بن الأكوع فى أن السلب من رأس الغنيمة لا من الخمس‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وسلمة إنما كان مستحقا لكل الغنيمة لا الخمس منها؛ لأنه لم يكن من جملة عسكر، وإنها ابتعه وحده فله ما أخذ من الخمس، فترك الرسول له الخمس زيادة على الأربعة الأخماس التى له، وهذا يجوز عندنا، كما لو رأى ‏(‏الخط فى دار الخمس‏)‏ فى وقت من الأوقات على الغانمين لفعل؛ لأن الخمس إليه يصرفه على ما يؤدى إليه اجتهاده، فلا دليل لهم فى الحديث‏.‏

باب‏:‏ يُقَاتِلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمةِ وَلاَ يُسْتَرَقُونَ

فيه‏:‏ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلا يُكَلَّفُوا إِلا طَاقَتَهُمْ‏.‏

لا خلاف بين العلماء فى القول بهذا الحديث؛ لأنهم إنما بذلوا الجزية على أن يأمنوا فى أنفسهم وأموالهم وأهليهم‏.‏

باب‏:‏ جَوَائِز الوُفُود

فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ‏؟‏ ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ‏:‏ اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ائْتُونِى بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا‏)‏، فَتَنَازَعُوا، وَلا يَنْبَغِى عِنْدَ نَبِىٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا‏:‏ هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏دَعُونِى، الَّذِى أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِى إِلَيْهِ‏)‏، وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاثَةٍ‏:‏ ‏(‏أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْودَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ‏)‏، وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ‏.‏

قَالَ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ‏:‏ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ‏.‏

قَالَ يَعْقُوبُ بْن محمد‏:‏ وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه سنة إجازة الوفد، وهو من باب الاستئلاف‏.‏

قال غيره‏:‏ هذا عام فى جميع الوفود الواردين على الخليفة من الروم كانوا أو من المسلمين؛ لأنهم وإن كانوا من الروم فإنهم لا يأتون إلا بأمر فيه منفعة وصلاح للمسلمين، فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بالوصاة بإجازتهم‏.‏

وأيضًا فإنهم ضيف، وقد قال صلى الله عليه وسلم فى الضيف‏:‏ جائزته يوم وليلة‏.‏

ولم يخص فهو عام‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما الثالثة التى نسيها المحدث فهى‏:‏ إنفاذ جيش أسامة، وكان المسلمون اختلفوا فى ذلك على أبى بكر، فأعلمهم أن النبى صلى الله عليه وسلم عهد بذلك عند موته‏.‏

وفيه دليل أن الوصية المدعاة لعلى باطل؛ لأنه لو كان وصيا كما زعموا لعلم قصة جيش أسامة كما علم ذلك أبو بكر، وما جهله، وقوله‏:‏ هجر رسول الله، قال ابن دريد‏:‏ يقال‏:‏ هجر الرجل فى المنطق إذا تكلم بما لا معنى له، وأهجر إذا أفحش‏.‏

باب‏:‏ التَّجَمُّل لِلوُفُود

فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ، وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةَ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِى السُّوقِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ، فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْوُفُودِ وَاِلْعِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ‏)‏، فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ إلى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ‏:‏ إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ، ثُمَّ أَرْسَلْتَ إِلَىَّ بِهَذِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏تَبِيعُهَا، أَوْ تُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِكَ‏)‏‏.‏

فيه أن من السنة المعروفة التجمل للوفد والعيد بحسن الثياب؛ لأن فى ذلك جمالاً للإسلام وأهله، وإرهابًا على العدو، وتعظيمًا للمسلمين‏.‏

وقول عمر‏:‏ ‏(‏تجمل بها للوفد‏)‏ يدل أن ذلك من عادتهم وفعلهم‏.‏

وقال الأبهرى‏:‏ إنما نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب للرجال؛ لأنه من زى النساء وفعلهم‏.‏

وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن يتشبه الرجال بالنساء‏.‏

وقيل‏:‏ إنما نهى عن ذلك؛ لأنه من باب السرف والخيلاء، وقد جوز لباسه فى الحرب للترهيب على العدو، وقد تقدم اختلافهم فى ذلك، وسيأتى ما للعلماء فى ذلك فى كتاب اللباس‏.‏

وفى قول عمر للنبى صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏أكسوتنيها يا رسول الله، وقد قلت فى حلة عطارد ما قلت‏)‏ أنه ينبغى السؤال عما يشكل، وفى حديث النبى أنه كساها له لغير اللباس، فيه من الفقه أنه لا بأس بالتجارة والانتفاع بما لا يجوز لبسه‏.‏

باب‏:‏ كَيْفَ يُعْرَضُ الإِسْلاَمُ عَلَى الصَّبىِّ

وذكر حديث ابْن عُمَرَ، أن الرسول أَقْبَلَ فِى رَهْطٍ قِبَلَ ابْن صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

وقد تقدم هذا الباب فى ‏(‏كتاب الجنائز‏)‏ فأغنى عن إعادته‏.‏

باب‏:‏ إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِى دَار الَحربِ وَلَهٌمْ مَالٌ وَأَرْضونَ فَهِىَ لَهَمْ

فيه‏:‏ أُسَامَةَ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا- فِى حَجَّتِهِ‏؟‏- قَالَ‏:‏ ‏(‏وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ لَنَا مَنْزِلا‏)‏‏؟‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ الْمُحَصَّبِ حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ‏)‏، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِى كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى بَنِى هَاشِمٍ‏:‏ أَنْ لا يُبَايِعُوهُمْ وَلا يُؤْوُوهُمْ‏.‏

قَالَ الزُّهْرِىُّ‏:‏ وَالْخَيْفُ‏:‏ الْوَادِى‏.‏

فيه‏:‏ عُمَرَ، أنَّهُ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى يُدْعَى هُنَيًّا، عَلَى الْحِمَى، فَقَالَ‏:‏ يَا هُنَىُّ، اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ، وَإِيَّاىَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِى بِبَنِيهِ، فَيَقُولُ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لا أَبَا لَكَ‏؟‏ فَالْمَاءُ وَالْكَلأ أَيْسَرُ عَلَىَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّى قَدْ ظَلَمْتُهُمْ إِنَّهَا لَبِلادُهُمْ، فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِى الإسْلامِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلا الْمَالُ الَّذِى أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلادِهِمْ شِبْرًا‏.‏

قال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ لما أسلم أهل مكة عام الفتح مَنَّ عليهم النبى صلى الله عليه وسلم وترك لهم أموالهم ودماءهم، ولم ينزل فى شيء منها لمنه عليهم بها، ونزل فى الوادى، وكذلك كان يفعل بهوازن لو بدرت بإسلامها، فلما استأنت قسم النبى صلى الله عليه وسلم الغنيمة بين أصحابه، فلما جاءوا بعد القسمة خيرهم فى إحدى الطائفتين‏:‏ المال أو السبى، فقضى به رسول الله لهم، واستطاب أنفس أصحابه، وقال‏:‏ من لم تطب نفسه فليبق إلى أول مغنم يفيئه الله علينا، وقضى لأهل مكة بأموالهم، ولم يستطب نفوس أصحابه؛ لأنه مال الله على اجتهاده، لا شيء للغانمين فيه إلا أن يقسمه لهم لقوله‏:‏ ‏(‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ‏(‏فآتاهم الرسول بهذه الآية أرض خيبر فقسمها بينهم، ونهاهم فى مكة فانتهوا، ونهاهم عمر عن الأرض المغنومة بالشام والعراق بهذه الآية فلم يقسمها لهم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما أدخل هنى تحت هذه الترجمة؛ لأن أهل المدينة أسلموا عفوًا فكانت لهم أموالهم؛ ألا ترى أنه ساوم بمكان المسجد بنى النجار وقال‏:‏ ‏(‏ثامنونى بحائطكم‏)‏ فأوجبه لهم‏.‏

وكذلك قال عمر‏:‏ إنها لأرضهم قاتلوا عليها فى الجاهلية، وأسلموا عليها فى الإسلام‏.‏

فأوجبها لهم، وهذا كله يشهد لهذه الترجمة أن من أسلم فى أرض الحرب فأرضه له ما لم يغلب عليها‏.‏

وسئل مالك عن إمام قبل الجزية من قوم فأسلم منهم أحد، أتكون أرضه له وماله‏؟‏ فقال مالك‏:‏ ذلك يختلف، أما الصلح فمن أسلم منهم فهو أحق بأرضه وماله، وأما أهل العنوة فمن أسلم منهم فماله وأرضه فيء للمسلمين؛ لأن أهل العنوة قد غلبوا على بلادهم فهى فيء لمن من عليهم، وأما أهل الصلح فإنهم قوم منعوا أنفسهم وأموالهم حتى صالحوا عليها فليس عليهم إلا ما صولحوا عليه‏.‏

وقول مالك فى هذا إجماع من العلماء‏.‏

واختلفوا إذا أسلم فى دار الحرب، وبقى فيها ماله وولده، ثم خرج إلينا مسلمًا، وغزا مع المسلمين بلده‏.‏

فقال الشافعى وأشهب وسحنون أنه قد أحرز ماله وعقاره حيث كان وولده الصغار؛ لأنهم تبع لأبيهم فى الإسلام، وحجتهم أنه إذا أسلم كان ماله حيث كان من دار الحرب أو غيرها على ملكه، فإذا غنمت دار الحرب كان حكم ماله كحكم مال المسلمين ولم تزل الغنيمة ملكه عنه‏.‏

وقال مالك والليث‏:‏ أهله وماله وولده فيء على حكم البلد كما كانت دار النبى صلى الله عليه وسلم على حكم البلد وملكهم ولم ير نفسه صلى الله عليه وسلم أحق بها‏.‏

وفرق أبو حنيفة بين حكمها إذا أسلم فى بلده، ثم خرج إلينا؛ فأولاده الصغار أحرار مسلمون وما أودعه مسلمًا أو ذميا فهو له، وما أودعه حربيا فهو وسائر عقاره هنالك فيء‏.‏

وإذا أسلم فى بلد الإسلام ثم ظهر المسلمون على بلده فكل ماله فيه فيء لاختلاف حكم الدارين عندهم‏.‏

ولم يفرق مالك ولا الشافعى بين إسلامه فى داره أو فى دار الإسلام‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن للإمام أن يحمى أراضى الناس المبورة لغنم الصدقة ومنفعة تشمل المسلمين، كما حمى عمر هذا الحمى لإبل الصدقة وغنمها، وهو الحمى الذى زاد فيه عثمان فأنكر عليه، وليس لأحد أن ينكر هذا على عثمان؛ لأنه لما رأى عمر فعل ذلك جاز لعثمان أن يحمى أكثر إذا احتاج إليه لكثرة الصدقة فى أيامه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏اضمم جناحك عن الناس‏)‏ أى‏:‏ لا تشد على كل الناس فى الحمى؛ فإن ضعفاء الناس القليلى الغنم والإبل الذى لا تنتهك ماشيته الحمى إن حميته عنه كان ظلمًا، فاتق دعوته؛ فإنها لا تحجب من الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وإياى ونعم ابن عوف وابن عفان‏)‏ حذره أن يدخل الحمى؛ فإنها كثيرة، فإن دخلته أنهكته، فإن منعت الدخول وهلكت كان لأربابها عوض من أموالهم يعيشون فيه، ومن ليس له غير الصريمة القليلة إن هلكت أتى يستغيث أمير المؤمنين فى الإنفاق عليه وعلى بنيه من بيت المال‏.‏

وفيه‏:‏ جواز الحمل على من له مال ببعض المضرة الداخلة عليه فى ماله إذا كان فى ذلك نظر لغيره من الضعفاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لولا المال‏)‏ يريد الإبل التى يحمل عليها المجاهدون فى سبيل الله من نعم الصدفة التى حمى لها الحمى لترعى فيه مدة أيام النظر فى الحمل عليها‏.‏

وفيه‏:‏ دليل على أن مسارح القرى وعوامرها التى ترعى فيها مواشى أهلها من حقوق أهل القرية وأموالهم، وليس للسلطان منعه إلا أن تفضل منه فضلة‏.‏

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا حمى إلا لله ولرسوله‏)‏ معناه‏:‏ لا حمى لأحد يخص به نفسه، وإنما هو لله ورسوله، أو لمن ورث ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ الشامل للمسلمين وما يحتاجون إلى حمايته‏.‏

باب‏:‏ كِتَابَةِ الإِمَامِ النَّاسَ

فيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اكْتُبُوا لِى مَنْ تَلَفَّظَ بِالإسْلامِ مِنَ النَّاسِ‏)‏، فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةِ رَجُلٍ، فَقُلْنَا‏:‏ نَخَافُ وَنَحْنُ أَلْفٌ وَخَمْسُ مِائَةٍ‏؟‏ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ابْتُلِينَا حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّى وَحْدَهُ، وَهُوَ خَائِفٌ‏.‏

وروى أَبُو حَمْزَةَ، عَنِ الأعْمَشِ‏:‏ ‏(‏خَمْسَ مِائَةٍ‏)‏‏.‏

وقال أَبُو مُعَاوِيَةَ‏:‏ ‏(‏مَا بَيْنَ سِتِّ مِائَةٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةٍ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى كُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِى حَاجَّةٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏ارْجِعْ فاحجج مَعَ امْرَأَتِكَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن كتابة الإمام الناس سنة من النبى صلى الله عليه وسلم عند الحاجة إلى الدفع عن المسلمين، فيتعين حينئذ فرض الجهاد على كل إنسان يطيق المدافعة إذا نزلت بأهل ذلك البلد مخافة‏.‏

وفيه‏:‏ أن وجوب ذلك لا يتعدى المسلمين، وليس على أهل الذمة بواجب؛ لأن المسلمين إنما يدافعون عن كلمة التوحيد، وليس على أهل الذمة بواجب؛ لأن المسلمين يدافعون عن أموالهم وذراريهم، ولصيانتها بذلوا لنا الجزية فعلينا حمايتهم والدفع عنهم‏.‏

وفيه‏:‏ العقوبة على الإعجاب بالكثرة‏.‏

باب‏:‏ إِنَّ اللَّه يُؤِّيُد الدِّينَ بَالرَّجُلِ الفَاجِرِ

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَشَهِدْنَا مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِرَجُلٍ، مِمَّنْ يَدَّعِى الإسْلامَ‏:‏ ‏(‏هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ‏)‏، فَقَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالا شَدِيدًا، وَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَلَمْ يَصْبْر فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ‏:‏ أَشْهَدُ أَنِّى رسُول اللَّه، وَأَمَرَ بِلالا، يَنَادَى فِى النَّاسِ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُؤمنة، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا مما أعلمنا النبى صلى الله عليه وسلم أنه ممن نفذ علينا الوعيد من الفجار المذنبين، لا أن كل من قتل نفسه أو غيره يقضى عليه بالنار ولا يعارض هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنا لا نستعين بمشرك‏)‏ لأن المشرك غير المسلم الفاجر، وقوله‏:‏ ‏(‏إنا لا نستعين بمشرك‏)‏ قد يكون خاصا فى ذلك الوقت؛ لأنه قد استعان بصفوان بن أمية فى هوازن، واستعار منه صلى الله عليه وسلم مائة درع ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏، وخرج معه صفوان بن أمية حتى قالت له هوازن‏:‏ تقاتل مع محمد ولست على دينه‏؟‏ فقال‏:‏ رب من قريش خير من رب من هوازن‏.‏

وقد غدا معه المنافقون وهو يعلم نفاقهم وكفرهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر‏)‏ يشتمل على المسلم والكافر، فيصح أن قوله‏:‏ ‏(‏لا نستعين بمشرك‏)‏ خاص فى ذلك الوقت، والله أعلم‏.‏

وفيه من أعلام النبوة إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيب الذى لا يدرك مثله إلا بالوحى‏.‏

وفيه جواز إعلام الرجل الصالح بفضيلة تكون فيه والجهر بها لتبلغ معانديه من أهل الباطل والقدح فى فضائله، فيحزنهم ذلك ويعلمون ثباته وشدته على الحق‏.‏

باب‏:‏ مَنْ تَأَمَرَ فِى الحَرْبِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةِ إِذَا خَافَ العَدُوَّ

فيه‏:‏ أَنَس، خَطَبَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، فَفُتِحَ عَلَيْهِ، وَمَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا‏)‏، وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى قوله‏:‏ ‏(‏ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له‏)‏‏.‏

فيه من الفقه أن من رأى للمسلمين عورة قد بدت أن يتناول سد خللها إذا كان مستطيعا لذلك وعلم من نفسه منة وجزالة وهذا المعنى امتثل على بن أبى طالب فى قيامه عند قتل عثمان بأمر المسلمين بغير شورى بينهم واجتماع لأنه خشى على الناس الضيعة وتفرق الكلمة التى آل أمر الناس أليها وعلم إقرار جميع الناس بفضله وأن أحدًا لا ينازعه فيه‏.‏

قال غيره‏:‏ وروى البخارى فى المغازى عن ابن عمر قال‏:‏ أمر رسول الله فى غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏إن قتل زيد فجعفر وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحه‏)‏ فبان بهذا الحديث أن جعفرًا وعبد الله إنما تقدما إلى أخذ الراية بتقديم الرسول لهما وتوليته إياهما‏.‏

ففى هذا من الفقه أن الإمام يجوز له أن يجعل ولاية العهد بعده لرجل، ثم يقول‏:‏ فإن مات قبل موتى فإن الولاية لفلان رجل آخر يستحق ذلك فإن مات المولى أولا فالعقد الثانى ثابت‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف يصح ذلك ولا يخلو أن تنعقد ولاية الثانى فى الحال أو لا تنعقد‏.‏

فإن كانت منعقدة صارت الإمامة ثابتة لإمامين، وذلك لا يجوز، وإن لم تنعقد للثانى فى الحال فقد جوزتم ابتداء عقدها على شرط وصفة‏.‏

قيل‏:‏ إنما جوزنا استخلاف الاثنين على سبيل الترتيب إذا ترتبا فى ولاية العهد‏.‏

ولو قيل‏:‏ إن عقد الولاية ينعقد لأحدهما لا بعينه وتتعين لمن انعقدت له عند موت الإمام القائد كان سابقًا، ألا ترى أن عمر لم يعين على أحد من الستة فى الشورى، وانعقدت لأحدهم الولاية من جهته، وتعين الواحد منهم بعد موته ووقوع الاختيار من بينهم عليه‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن الولاية تنعقد للأول، وإن الثانى إنما وقع عليه الاختيار من غير أن تنعقد له ولاية فى الحال لتنعقد فى الثانى، فيلزم الأمة حينئذ اتباعه باختيار الإمام له، وإن اختياره لهم أولى من نظر من يولى الاختيار منهم لكافتهم كان له وجه، يتعلق ذلك بالمصلحة العامة والنظر للكافة، وقد وردت السنة بمثله، وأجمعت الأمة على استعماله‏.‏

ولى رسول الله زيد بن حارثة على الجيش الذى جهزه إلى مؤتة، فإن قتل فأميره جعفر بن أبى طالب بعده، ثم إمارة عبد الله بن رواحة بعده، فإن ولى الإمام وليا بعده، وقال‏:‏ إن مات بعد إفضاء الخلافة إليه بعدى لا قبل فالإمام بعده فلان انعقدت ولاية الأول وصار إمامًا عند موت المتخلف، فكان لولى العهد فى حياته أن يختار غيره لولاية العهد؛ لأن الحق فى الاختيار حينئذ يصير إليه بإفضاء الإمامة إليه، قاله بعض أهل العراق‏.‏

باب‏:‏ العَوْن بِالمدَدِ

فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لَحْيَانَ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَمَدَّهُمُ عليه السلام بِسَبْعِينَ مِنَ الأنْصَارِ، كُنَّا نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ، يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ فَقَتَلُوهُمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَليهم‏.‏

قَالَ أَنَس‏:‏ وقَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا‏:‏ أَلا بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِيَنَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا، ثُمَّ رُفِعَ بَعْدُ ذَلِكَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن السنة مضت من النبى صلى الله عليه وسلم فى أن يمد ثغوره بمدد من عنده، وجرى بذلك العمل من الأئمة بعده‏.‏

وفيه‏:‏ الدعاء فى الصلاة على أهل العصيان والشرك، وإنما ذلك على قدر جرائمهم‏.‏

وفيه‏:‏ أنه قد يجوز النسخ فى الأخبار على صفة ولا تكون كليا، إما يكون نسخه ترك تلاوته فقط، كما أن نسخ الأحكام ترك العمل بها، فربما عوض من المنسوخ من الأحكام حكمًا غيره، وربما لم يعوض فى النسخ من الأحكام‏.‏

منه أمره يعلى بالصدقة عند مناجاة الرسول، ثم عفى عنا بغير عوض من الشرع بنسخه، بل ترك العمل به، وكذلك الأخبار نسخها من القرآن رفع ذكرها، وترك تلاوتها لآثار تكتب بخبر آخر مضاد لها مثله‏.‏

مما نسخ من الأخبار ما كان يقرأ فى القرآن‏:‏ ‏(‏لو أن لابن آدم واديين من ذهب لا بتغى لهما ثالثًا‏)‏‏.‏

باب مَنْ غَلَبَ الْعَدُوَّ فَأَقَامَ عَلَى عَرْصَتِهِمْ ثَلاثًا

فيه‏:‏ أَنَس، عَنْ أَبِى طَلْحَةَ، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ، أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ‏.‏

قال المهلب‏:‏ كان هذا منه والله أعلم ليريح الظهر والأنفس، هذا إذا كان فى أمن من عدو وطارق، وإنما قصد إلى ثلاث والله أعلم لأنه أكثر ما يريح المسافر؛ لأن الأربعة إقامة بحديث العلاء بن الحضرمى، وحديثه الآخر‏:‏ ‏(‏لا يبقين مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث‏)‏ ولقسمة الغنائم‏.‏

باب مَنْ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فِى غَزْوِهِ وَسَفَرِهِ

وَقَالَ رَافِعٌ‏:‏ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلا، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ‏.‏

فيه‏:‏ أَنَس، اعْتَمَرَ الرسول صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجِعْرَانَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا إلى نظر الإمام واجتهاده يقسم حيث رأى الحاجة والأمن، ويؤخر إذا رأى فى المسلمين غنى، وخاف‏.‏

وممن أجاز قسمة الغنائم فى دار الحرب‏:‏ مالك والأوزاعى والشافعى وأبو ثور‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا تقسم الغنائم فى دار الحرب‏.‏

والصواب قول من أجاز ذلك للسنة الواردة فيه، روى ابن القاسم عن مالك قال‏:‏ الشأن قسمة الغنيمة فى دار الحرب؛ لأنهم أولى برخصها، وما عدل من البعير بعشرة شياه فليس بأمر لازم‏.‏

فى قوله‏:‏ ‏(‏عدل‏)‏ دليل على أن المعادلة والنظر فيها فى كل بلد؛ لأن البعير فى الحجاز له قيمة زائدة ولأكل لحمه عادة جارية، وليس كذلك فى غيره من البلاد، وإنما هو إلى الاجتهاد فى كل بلدة‏.‏

وفيه دليل على جواز بيع اللحم باللحم متفاضلا من غير جنسه أيضًا‏.‏

باب‏:‏ إِذَا غَنِمَ المشْرِكُونَ مَالَ المسْلِمِ ثُمَّ وَجَدُه المسْلِمُ

فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ أَبَقَ له غلامٌ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَرَدَّهُ عليه، وَأَنَّ فَرَسًا لَهُ عَارَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِ، فَرَدُّوهُ عليه‏.‏

وقال مرة‏:‏ أَنَّهُ كَانَ عَلَى فَرَسٍ يَوْمَ لَقِىَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمِيرهم يَوْمَئِذٍ خَالِدُ، بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ، رَدَّ خَالِدٌ فَرَسَهُ‏.‏

اختلف العلماء فى ملك أهل الحرب، هل يملكون علينا‏؟‏ فإن غنمناه وجاء صاحبه قبل القسمة أخذه بغير شيء، وإن جاء بعد القسمة أخذه بالقيمة، وهو قول عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وزيد بن ثابت، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعطاء والقاسم وعروة، وبه قال أحمد بن حنبل‏.‏

وقال الحسن البصرى والزهرى‏:‏ لا يرد إلى صاحبه قبل القسمة ولا بعدها‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا يملك أهل الحرب علينا بالغلبة ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها بغير شىء‏.‏

واحتج الشافعى بحديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن أبى المهلب، عن عمران بن حصين قال‏:‏ ‏(‏أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء وامرأة من المسلمين، فلما كان فى الليل قامت المرأة وقد ناموا، فركبت العضباء وتوجهت قبل المدينة، ونذرت لئن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، فأتوا بها النبى صلى الله عليه وسلم فأخبرته المرأة بنذرها فقال‏:‏ بئسما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر فى معصية‏)‏ وزاد عبد الوهاب الثقفى قال‏:‏ قال أبو أيوب السختيانى‏:‏ فأخذها النبى، صلى الله عليه وسلم‏)‏ فهذا دليل على أن أهل الحرب لا يملكون علينا بغلبة ولا غيرها، ولو ملكوا علينا لملكت المرأة الناقة كسائر أموالهم لو أخذت شيئًا منها، ولو ملكتها لصح فيها نذرها‏.‏

وحجة مالك والجماعة حديث ابن عمر فى الغلام والفرس وأنهما رُدّا عليه قبل القسمة، وأيضًا ما رواه عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن رجلا وجد بعيرًا له كان المشركون أصابوه، فقال رسول الله‏:‏ إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك، وإن أصبته بعد ما قسم أخذته بالقيمة‏)‏‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فدل على أن أهل الحرب قد ملكوه على المسلمين وصارت لهم يد عليه، ألا ترى أنه لو كان باقيًا على ملك مالكه لم يختلف حكم وجوده قبل القسمة وبعدها، والذى يقوى هذا أن العدو لو أتلفه ثم أسلم لم يتبع بقيمته، ولو أتلفه مسلم على مسلم لزمه غرمه، ولما جاز أن يملك المسلم على الكافر بالقهر والغلبة جاز أن يملك الكافر عليه بذلك‏.‏

ودليل آخر‏:‏ وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وهل ترك لنا عقيل منزلا‏)‏ وكان عقيل استولى على دور النبى صلى الله عليه وسلم وباعها فلولا أن عقيلا ملكها بالغلبة وباعها لأبطل النبى صلى الله عليه وسلم بيعها ولم يجز تصرفه؛ لأن بيع ما لا يصح ملكه لا حكم له‏.‏

فإن قيل‏:‏ خبر ابن عباس رواه الحسن بن عمارة وهو ضعيف؛ فإن الطحاوى ذكر أن على بن المدينى روى عن يحيى عن شعبة أنه سأل مسعرًا عن هذا الحديث فقال‏:‏ هو من حديث عبد الملك بن ميسرة فأثبته من حديثه فدل أنه قد رواه غير الحسن بن عمارة فاستغنى عن روايته بشهرته عن عبد الملك بن ميسره‏.‏

وأما خبر الناقة والمرأة فلا حجة لهم فيه لأن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لانذر لابن آدم فيما لا يملك‏)‏ إنما كان قبل أن تملك المرأة الناقة لأنها قالت ذلك وهى فى دار الحرب، وكل الناس تقول‏:‏ إن من أخذ شيئًا من أهل الحرب فلم ينجح به إلى دار الإسلام أنه غير محرز له ولا يقع عليه ملكه حتى يخرج به إلى دار الإسلام‏.‏

فلهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نذر لابن آدم فيما لا يملكه‏)‏ هذا وجه الحديث‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ ما أحرزه المشركون وخرج عن أيديهم إلى المسلمين، فإن لم يقع فى المقاسم ولا حصل بيد إنسان بعوض فإنه يعود إلى ملك صاحبه، فالمرأة لما أخذت الناقة بغير عوض انتقل ملكها عن المشركين وحصل للنبى صلى الله عليه وسلم فأما إذا قسمت الغنائم وحصل الشيء فى يد أحد حصلت له شبهة ملك لأجل أنه حصل له بعوض؛ لأن الغانمين قد اقتسموا وتفرقوا، فإن أعطاه الإمام القيمة جاز، وإن لم يعطه لم يأخذه صاحبه إلا بعوض؛ لأن القسم حكم الإمام مع كون شبهه يد الكفار فيصير للغانم بحكم الإمام‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ والدليل أن المرأة لما أخذت الناقة انتقل ملكها للنبى صلى الله عليه وسلم ما رواه سفيان، عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة‏:‏ ‏(‏أن رجلا أصاب العدو له بعيرًا، فاشتراه رجل منهم، فجاء به فعرفه صاحبه، فخاصمه إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن شئت أعطه ثمنه الذى اشتراه به وهو لك، وإلا فهو له‏)‏ فهذا وجه الحكم فى هذا الباب من طريق الآثار‏.‏

وأما من طريق النظر فرأينا النبى صلى الله عليه وسلم حكم فى مشترى البعير من أهل الحرب أن لصاحبه أن يأخذه منه بالثمن وكان قد تملكه المشترى من الحربيين، كما يملك الذى يقع فى سهمه من الغنيمة ما يقع فى سهمه منها، فالنظر على ذلك أن يكون الإمام إذا قسم الغنيمة فوقع منها فى يد رجل شيء، وإن كان أسر ذلك من يد آخر أن يكون المأسور من يده من الذى وقع فى سهمه بقيمته، كما يأخذ من يد مشتريه بثمنه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إن فرسًا عار‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ يقال‏:‏ عار الفرس والكلب وغير ذلك عيارًا‏:‏ أفلت وذهب فى الناس‏.‏

قال الطبرى‏:‏ يقال ذلك للفرس إذا فعله مرة بعد مرة، ومنه قيل للبطال من الرجال الذى لا يثبت على طريقة‏:‏ عيار، ومنه سهم عائر‏:‏ لا يدرى من أين أتى‏.‏

باب مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالرَّطَانَةِ

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 22‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ جَابِر، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ، فَصَاحَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَىَّ هَلا بِكُمْ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أُمِّ خَالِدٍ، أَتَيْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِى، وَعَلَىَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سَنَهْ، سَنَهْ‏)‏،- وَهِىَ بِالْحَبَشِيَّةِ‏:‏ حَسَنَةٌ- قَالَتْ‏:‏ فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِى أَبِى، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دَعْهَا‏)‏، مرتين، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَبْلِى وَأَخْلِقِى‏)‏، ثلاث مرات، فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ، دكن‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ، فَقَالَ له النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كِخْ، كِخْ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ‏)‏‏.‏

السؤر‏:‏ الوليمة بالفارسية‏.‏

قال المؤلف‏:‏ معنى هذا الباب فى تأمين المسلمين لأهل الحرب بلسانهم ولغتهم أن ذلك أمان لهم؛ لأن الله تعالى يعلم الألسنة كلها‏.‏

وأيضًا فإن الكلام بالفارسية يحتاج إليه المسلمون للتكلم به مع رسل العجم‏.‏

قد أمر النبى صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتكلم بلسان العجم، ولذلك أدخل البخارى عن الرسول أنه تكلم بألفاظ من الفارسية كانت متعارفة عندهم معلومة وفهمها عنه أصحابه، فالعجم أحرى أن يفهموها إذا خوطبوا بها؛ لأنها لغتهم‏.‏

وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب ‏(‏قوله‏:‏ إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا‏)‏ بعد هذا إن شاء الله‏.‏

قال المهلب‏:‏ أما دعاؤه بأهل الخندق أجمع لطعام جابر؛ فإنما فعله لأنه علم منهم حاجة إلى الطعام، وعلم أنه طعام قد أذن له فيه ببركته ليكون آية وعلامة للنبوة، فلذلك دعاهم أجمع، ولم يدع السادس إلى دار الخياط واستأذن الخياط أن يدخل معهم لتكون لنا سنة، و لأنه طعام لم يؤذن له فى إتيانه، وإن كان كل طعامه فيه بركة؛ ولكن بركة تكون آية وعلامة فليس هذا من ذلك الطعام‏.‏

وفيه مداعبة النبى صلى الله عليه وسلم للأطفال فى اللعب بحضرة آبائهم وغيرهم، وكان صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أبلى وأخلقي‏)‏ هو كلام معروف عند العرب معناه الدعاء بطول البقاء، قال صاحب الأفعال‏:‏ يقال‏:‏ أبل وأخلقه‏:‏ أى عش فخرق ثيابك وارقعها‏.‏

وخلقت الثوب‏:‏ أى أخرجت باليه ولفقته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فزبرني‏)‏ يعنى‏:‏ انتهرنى، عن أبى علي‏.‏

وقد تقدم تفسير ‏(‏كخ كخ‏)‏ فى كتاب الزكاة فى باب ‏(‏ما يذكر فى الصدقة للنبى صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ حمل الصبيان وتدريبهم على الشرائع، والتجنب بهم الحرام والمكروه، وقد تقدم هذا المعنى بزيادة فيه فى كتاب الزكاة فى باب ‏(‏أخذ صدقة التمر عند صرام النخل‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ مخاطبة الصبيان بما يخاطب به الكبار الفهماء إذا فهموا، وهذه المخاطبة وإن كانت للحسن ففيها تعريف للسلمين أنه لا يأكل الصدقة‏.‏

والرطانة كلام العجم، قال صاحب الأفعال‏:‏ يقال‏:‏ رطن رطانة، إذا تكلم بلسان العجم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فحى هلا بكم‏)‏ قال الفراء‏:‏ معنى ‏(‏حي‏)‏ عند العرب هلم وأهل‏.‏

فالمعنى هلموا إلى طعام جابر وأقبلوا إليه، ومثله قول المؤذن‏:‏ ‏(‏حى على الصلاة‏)‏ أى‏:‏ أقبلوا إليها، وفتحت الياء من ‏(‏حي‏)‏ لسكونها وسكون الياء التى قبلها، كما قالوا‏:‏ ليت ولعل‏.‏

ومنه قول ابن مسعود‏:‏ إذا ذكر الصالحون فحى هلا، وحى هَلَ، وحى هَلْ، وحى أهلا آل عمر، وحى هلا على عمر‏.‏

باب الْغُلُولِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يوم القيامة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 161‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَامَ فِينَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، يَقُولُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ‏:‏ لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ‏.‏

وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ‏:‏ لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ‏.‏

وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ‏:‏ لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بْلَغْتُكَ‏.‏

أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ‏:‏ لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بْلَغْتُكَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا الحديث على سبيل الوعيد من الله لمن أنفذه عليه من أهل الغلول، وقد تكون العقوبة حمل البعير وسائر ما غله على رقبته على رءوس الأشهاد وفضيحته به، ثم الله مخير بعد ذلك فى تعذيبه بالنار أو العفو عنه، فإن عذبه بناره أدركته الشفاعة إن شاء الله، وإن لم يعذبه بناره فهون واسع المغفرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا أملك لك من الله شيئًا‏)‏ أى‏:‏ من المغفرة والشفاعة حتى يأذن الله فى الشفاعة لمن أراد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏‏.‏

وفيه‏:‏ أن العقوبات قد تكون من جنس الذنوب‏.‏

وهذا الحديث يفسر قوله‏:‏ ‏(‏يأت بما غل يوم القيامة ‏(‏أنه يأتى يحمله على رقبته ليكون أبلغ فى فضيحته وليتبين للأشهاد جنايته، وحسبك بهذا تعظيمًا لإثم الغلول وتحذير أمته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏صامت‏)‏ هو الذهب والفضة‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ وأجمع العلماء أن على الغال أن يرد ما غل إلى صاحب المقسم ما لم يفترق الناس‏.‏

واختلفوا فيما يفعل بذلك إذا افترق الناس، فقالت طائفة‏:‏ يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقى، هذا قول الحسن البصرى والليث والثورى، وروى معناه عن معاوية ابن أبى سفيان، وروى عن ابن مسعود أنه رأى أن يتصدق بالمال الذى لا يعرف صاحبه، وروى معناه عن ابن عباس‏.‏

قال أحمد فى الحبة والقيراط ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ على الرحل ولا يعرف موضعه‏:‏ يتصدق به‏.‏

وكان الشافعى لا يرى الصدقة به وقال‏:‏ لا أرى الصدقة به وجهًا، إنه إن كان ماله فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لغيره فليس عليه الصدقة بمال غيره‏.‏

باب الْقَلِيلِ مِنَ الْغُلُولِ

وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَرَّقَ مَتَاعَهُ وَهَذَا أَصَحُّ‏.‏

فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ‏:‏ كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هُوَ فِى النَّارِ‏)‏، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً، قَدْ غَلَّهَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا يشبه ما قبله، أى أنه فى طريق النار إن أنفذ الله عليه الوعيد‏.‏

وقول البخارى‏:‏ ‏(‏وهذا أصح‏)‏ يعى‏:‏ حديث عبد الله بن عمرو ‏(‏أن رسول الله لم يحرق رحل كركرة حين وجد فيه الغلول‏)‏‏.‏

وحديث ابن عمر انفرد به صالح بن محمد بن زائدة عن سالم، وهو ضعيف مدنى، تركه مالك، وليس ممن يحتج بحديثه‏.‏

وقد قال قوم من العلماء بحديث ابن عمر أنه يحرق رحل الغال‏.‏

قال الحسن البصرى‏:‏ يحرق متاعه كله إلا أن يكون حيوانًا أو مصحفًا‏.‏

وقال مكحول وسعيد بن عبد العزيز والأوزاعى‏:‏ يحرق متاعه كله‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ إلا ما غل وسلاحه وثيابه التى عليه‏.‏

وقال مالك وأبو حنيفة والليث والثورى والشافعى‏:‏ إنه يعزر ولا يحرق رحله‏.‏

وقد ذكرنا إجماع الفقهاء أن على الغال أن يرد ما غل إلى صاحب المقاسم وهى توبة له‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ ولو صح حديث ابن عمر لاحتمل أن يكون حيث كانت العقوبات فى الأموال، كما قال فى مانع الزكاة، وفى ضالة الإبل غرامتها مثليه وجلدات نكال، وهذا كله منسوخ‏.‏

وفى هذا الحديث تحريم قليل الغلول وكثيره كما قال صلى الله عليه وسلم للذى أتاه بالشراك من المغنم قال‏:‏ ‏(‏شراك أو شراكان من نار‏)‏ وقال فى الشملة‏:‏ ‏(‏إنها تشتعل عليه نارًا يوم القيامة‏)‏‏.‏

باب‏:‏ مَا يُكْرَهُ مِنْ ذَبْحِ الإِبلِ والغَنَمِ فِى المَغَانمِ

فيه‏:‏ رَافِعٍ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، وَأَصَبْنَا إِبِلا وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَعَجِلُوا، فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ وَفِى الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَذِهِ الْبَهَائِمُ لَهَا أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما أمر رسول الله بإكفاء القدور من لحوم الإبل والبقر وأكلها جائز، فيء دار الحرب بغير إذن الإمام عند العلماء‏.‏

هذا قول مالك والليث والأوزاعى والشافعى وجماعة من العلماء رخصوا فى ذبح الأنعام فى بلاد العدو للأكل وفى أكل الطعام؛ لأن هؤلاء الذين أكفئت عليهم القدور إنما ذبحوه بذى الحليفة وهى أرض الإسلام، وليس لهم أن يأخذوا فى أرض الإسلام إلا ما قسم لهم؛ لأنها غنيمة فاضلة، وإباحة الأكل من المغنم إنما هو فى أرض العدو وقبل تخليص الغنيمة وإحرازها، فهذا الفرق بينهما‏.‏

وقد قال الثورى والشافعى‏:‏ إن ما أخذه المرء من الطعام فى أرض العدو فيفضل منه فضلة وتقدم بها إلى بلدة الإسلام أنه يردها إلى الإمام‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يتصدق به، فكيف من يتسور فيه فى أرض الإسلام ويأخذه بغير إذن الإمام‏؟‏ ورخص مالك فى فضلة الزاد مثل الخبز واللحم إذا كان يسيرًا لا بال له‏.‏

وهو قول أحمد بن حنبل‏.‏

وقال الليث‏:‏ أحب إلى إذا دنا من أهله أن يطعمه أصحابه‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ يهديه إلى أهله‏.‏

وأما البيع فلا يصلح، فإن باعه وضع ثمنه فى المغنم، فإن فات ذلك تصدق به عن الجيش، ورخص فيه سليمان بن موسى‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأمرهم صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور ليعلمهم أن الغنيمة إنما يستحقونها بعد قسمته لها فلا يفتاتوا فى أخذ شيء قبل وجوبه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه ‏(‏ولقوله‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله‏}‏‏.‏

قال الحسن‏:‏ إن هذه الآية نزلت فى أهل، نحروا قبل أن يصل النبى صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح‏.‏

وقال مجاهد فى هذه الآية‏:‏ لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتى يقضيه الله على لسانه‏.‏

وقال الكلبى‏:‏ لا تقدموا بين يدى الله ورسوله بقول ولا فعل‏.‏

وفيها‏:‏ قول آخر ذكره ابن المنذر، عن سماك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم قال‏:‏ ‏(‏أصبنا يوم خيبر غنمًا فانتهبناها، فجاء رسول الله وقدورهم تغلى فقال‏:‏ إنها نهبة فأكفئوا القدور وما فيها؛ فإنها لا تحل النهبة‏)‏‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ هذا يدل أنهم كانوا قد خرجوا من بلاد العدو؛ لأن النهبة مباحة فى بلاد العدو وغير مباحة فى دار الإسلام، وهذه القصة أصل فى جواز العقوبة فى المال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فأكفئت‏)‏ قال الطبرى‏:‏ الأشهر والأفصح فى كلام العرب أن يقال‏:‏ كفأ القوم القدور يكفئونها، وإن كانت الأخرى ‏(‏أكفأت‏)‏ محكية ذكرها ابن الأعرابى عن العرب‏.‏

وسيأتى ما فى الحديث من الغريب فى ‏(‏كتاب الذبائح‏)‏ إن شاء الله‏.‏

باب‏:‏ الْبِشَارَةِ فِى الْفُتُوحِ

فيه‏:‏ جَرِير، قَالَ لِى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَلا تُرِيحُنِى مِنْ ذِى الْخَلَصَةِ‏)‏‏؟‏ وَكَانَ بَيْتًا فِى خَثْعَمُ، يُسَمَّى الكَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ، فَانْطَلَقْتُ فِى خَمْسِينَ وَمِائَةٍ فارس كلهم مِنْ أَحْمَسَ، فَكَسَرَهَا وَحَرقها وَأَرْسَلَ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

فيه‏:‏ البشارة فى الفتوح وما كان فى معناه من كل ما فيه ظهور الإسلام واهله، ليبشر المسلمون بإعلاء الدين، ويبتهلوا إلى الله فى الشكر على ما وهبهم من نعمه ومن عليهم من إحسانه، فقد أمر الله تعالى عباده بالشكر ووعدهم المزيد فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لئن شكرتم لأزيدنكم‏}‏‏.‏

باب‏:‏ لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ

فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ‏:‏ ‏(‏لا هِجْرَةَ، بعد الفتح وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ مُجَاشِعِ، أنَّهُ جَاءَ بِأَخِيهِ مُجَالِدِ بْنِ مَسْعُودٍ إِلَى الرسول صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ هَذَا مُجَالِدٌ، يُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ أُبَايِعُهُ عَلَى الإسْلامِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ بَعْدَ فَتَحَ مَكَّةَ‏.‏

وروى البخارى عن عطاء قال‏:‏ زرت عَائِشَة مَع عُبيد بْن عمير فَسَألها عن الْهِجْرَةِ، فَقَالَتْ‏:‏ لاَ هِجْرَةَ اليوم، وَكَانَ المؤمنون يفر أحدهم بدينه إِلى اللَّه، وَإِلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، وأما اليوم فقد أظهر الله الإِسْلامِ، وَالْمؤمن يعبد ربه كيف شاء، وَلكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ‏.‏

فهذا بين أن الهجرة منسوخة بعد الفتح إلا أن سقوط فرضها بعد الفتح لا يسقطها عمن هاجر قبل الفتح، فدل أن قوله‏:‏ ‏(‏لا هجرة بعد الفتح‏)‏ ليس على العموم؛ لأن الأمة مجمعة أن من هاجر قبل الفتح أنه يحرم عليه الرجوع إلى وطنه الذى هاجر منه، كما حرم على أهل مكة الرجوع إليها، ووجب عليهم البقاء مع النبى، والتحول معه حيث تحول لنصرته ومؤازرته وصحبته وحفظ شرائعه والتبليغ عنه، وهم الذين استحقوا اسم المهاجرين ومدحوا به دون غيرهم‏.‏

ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم رثى بسعد بن خولة أن مات بمكة فى الأرض التى هاجر منها، ولذلك دعا لهم فقال‏:‏ ‏(‏اللهم أمض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم‏)‏‏.‏

وذكر أبو عبيد فى كتاب ‏(‏الأموال‏)‏ أن الهجرة كانت على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضًا، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للذى سأله عن الهجرة‏:‏ ‏(‏إن شأنها شديد، فهل لك من إبل تؤدى زكاتها‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فاعمل من وراء البحار؛ فإن الله لا يترك من عملك شيئًا‏)‏ ولم يوجب عليه الهجرة‏.‏

وقيل‏:‏ إنما كانت الهجرة واجبة إذا أسلم بعض أهل البلد ولم يسلم بعضهم لئلا يجرى على من أسلم أحكام الكفار، فأما إذا أسلم كل من فى الدار فلا هجرة عليهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس حين أمرهم بما أمرهم به ولم يأمرهم بهجرة أرضهم‏:‏ ‏(‏وقد عذر الله المستضعفين من الرجال والنساء الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا‏)‏ يعنى‏:‏ طريقًا إلى المدينة، وأما الهجرة الباقية إلى يوم القيامة فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المهاجر من هجر ما نهى الله عنه‏)‏‏.‏

باب‏:‏ إِذَا اضْطُرَّ الرَّجُلُ إِلىَ النَّظَرِ فِى شُعُورِ أَهْل الذِّمَّةِ والمؤُمِنَاتِ إِذَا عَصَيْنَ اللَّهِ وَتَجْرِيدِهِنَّ

فيه‏:‏ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ- وَكَانَ عُثْمَانِيًّا- قَالَ لابْنِ عَطِيَّةَ- وَكَانَ عَلَوِيًّا-‏:‏ إِنِّى لأعْلَمُ مَا الَّذِى جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ‏:‏ بَعَثَنِى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَالزُّبَيْرَ، فَقَالَ‏:‏ ائْتُوا رَوْضَةَ خاخ، تَجِدُونَ بِهَا امْرَأَةً أَعْطَاهَا حَاطِبٌ كِتَابًا، فَأَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَقُلْنَا‏:‏ الْكِتَابَ، قَالَتْ‏:‏ لَمْ يُعْطِنِى، قُلْنَا‏:‏ لَتُخْرِجِنَّ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ، فَأَخْرَجَتْ مِنْ حُجْزَتِهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الحديث من الفقه أن من عصى الله لا حرمة له، وأن المعصية تبيح حرمته وتزيل سترته، ألا ترى أن عليا والزبير أرادا كشف المرأة لو لم تخرج الكتاب؛ لأن حملها له ضرب من التجسس على المسلمين، ومن فعل ذلك فعليه النكال بقدر اجتهاد الإمام مسلمًا كان أو كافرًا‏.‏

وقد أجمعوا أن المؤمنات والكافرات فى تحريم الزنا بهن سواء فكذلك فى تحريم النظر إليهن متجردات، فهن سواء فيما أبيح من النظر إليهن فى حق الشهادة أو إقامة الحد عليهن، وهذا كله من الضرورات التى تبيح المحظورات‏.‏

وقول أبى عبد الرحمن‏:‏ ‏(‏إنى لأعلم ما الذى جرأ صاحبك على الدماء‏)‏ ظن منه؛ لأن عليا على مكانته من الفضل والعلم لا يقتل أحدًا إلا بالواجب، وإن كان قد ضمن له الجنة بشهوده بدرًا وغيرها‏.‏

باب‏:‏ اسْتِقْبَال الغُزَاةِ

- فيه‏:‏ ابْنُ الزُّبَيْر، قلت لابْنِ جَعْفَرٍ‏:‏ أَتَذْكُرُ إِذْ لَقَّيْنَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ‏.‏- قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ‏:‏ ذَهَبْنَا نَتَلَقَّى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ التلقى للمسافرين والقادمين من الجهاد والحج بالبشر والسرور أمر معروف، ووجه من وجوه البر‏.‏

وبهذا الحديث ثبت تشييعهم؛ لأن ثنية الوداع إنما سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون صغارًا وكبارًا عند التلقى، وقد يجوز تلقيهم بعدها وتشييعهم إلى أكثر منها، وفيه الفخر بإكرام النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب‏:‏ مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الغَزْوِ

وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَفَلَ كَبَّرَ ثَلاثًا، قَالَ‏:‏ ‏(‏آيِبُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَائِبُونَ عَابِدُونَ حَامِدُونَ لِرَبِّنَا سَاجِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَقَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَىٍّ، فَعَثَرَتْ نَاقَتُهُ، فَصُرِعَا جَمِيعًا، فَاقْتَحَمَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏عَلَيْكَ الْمَرْأَةَ‏)‏، فَقَلَبَ ثَوْبًا عَلَى وَجْهِهِ، وَأَتَاهَا فَأَلْقَاهُ عَلَيْهَا، وَأَصْلَحَ لَهُمَا مَرْكَبَهُمَا، فَرَكِبَا وَاكْتَنَفْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ‏)‏، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ قد تقدم القول فى التكبير عند الصعود والإشراف على المدن والتسبيح عند الهبوط‏.‏

وفيه إرداف المرأة خلف الرجل وسترها عن الناس، وفيه ستر من لا تجوز رؤيته وستر الوجه عنه‏.‏

وفيه خدمة العالم والإمام وخدمة أهله‏.‏

وفيه اكتناف الإمام والاجتماع حوله عند دخول المدن وتلقى الناس سنة ماضية وأمر جار‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وفيه حمد الله للمسافر عند إتيانه سالمًا إلى أهله وسؤاله الله التوبة والعبادة، وتقدير الكلام‏:‏ نحن آيبون عابدون حامدون لربنا ساجدون إن شاء الله على ما رزقنا من السلامة والنصر وصدق الوعد ولا تتعلق المشيئة بقوله‏:‏ ‏(‏آيبون‏)‏ لوقوع الإياب، وإنما تتعلق بباقى الكلام الذى لم يقع بعد‏.‏

وفيه‏:‏ أنه يجوز للمتكلم أن يقدم المشيئة لله فى أول كلامه، ثم يصلها بما يحب إيقاعه من الفعل‏.‏

وفيه‏:‏ أن الرجل الفاضل ينبغى له عندما تجدد له نعمة وسلامة أن يقر لله بطاعته ويسأله أن يديم له حال توبته وعبادته له، وإن كان الرسول قد تقرر عنده أنه لا يزال تائبًا عابدًا ساجدًا حامدًا لربه، لكن هذا هو أدب الأنبياء أخذًا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولن لشيء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله‏}‏‏.‏

ولعلمهم بمواقع نعم الله عندهم يعترفون له بها، ويرغبون ويبرءون إليه من الحول والقوة، ويظهرون الافتقار إليه مبالغة فى شكره تعالى، ولتقتدى بهم أممهم فى ذلك صلوات الله عليهم‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاَةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ

فيه‏:‏ جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى سَفَرٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، قَالَ لِى‏:‏ ‏(‏ادْخُلِ الْمَسْجِدَ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ كَعْب، كَانَ الرسول صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ ضُحًى، دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ الصلاة عند القدوم سنة وفضيلة فيها معنى الحمد لله على السلامة والتبرك بالصلاة أول ما يبدأ به فى حضره، ونعم المفتاح هى إلى كل خير، وفيها يناجى العبد ربه تعالى وذلك هدى رسول الله وسنته، ولنا فيه أكرم الأسوة‏.‏

باب الطَّعَامِ عِنْدَ الْقُدُومِ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ لِمَنْ يَغْشَاهُ - فيه‏:‏ جَابِر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، نَحَرَ جَزُورًا أَوْ بَقَرَةً‏.‏

وقال مرة‏:‏ فَلَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، أَمَرَنِى أَنْ آتِىَ الْمَسْجِدَ، فَأُصَلِّىَ فيه‏.‏

‏(‏صرار‏)‏ موضع فى نواحى المدينة‏.‏

فيه‏:‏ إطعام الإمام والرئيس أصحابه عند القدوم من السفر، وهو مستحب ومن فعل السلف‏.‏

وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏كان ابن عمر يفطر لمن يغشاه‏)‏ أى‏:‏ إذا قدم من سفر أطعم من يغشاه وأفطر معهم، أى ترك قضاء رمضان؛ لأنه كان لا يصوم رمضان فى السفر أصلا، فإذا انقضى إطعامه وزاده ابتدأ قضاء رمضان الذى أفطره فى السفر، وقد جاء هذا مفسرًا فى ‏(‏الأحكام‏)‏ لإسماعيل‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أما الذى ذكره إسماعيل عن ابن عمر فليس فيه ما يدل على صحة ما تأوله أبو عبد الله، والذى ذكر إسماعيل عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر ‏(‏أنه كان إذا كان مقيمًا لم يفطر، وإذا كان مسافرًا لم يصم، فإذا قدم أفطر أيامًا لغاشيته ثم يصوم‏)‏ فليس يدل هذا أن سفره كان أبدًا فى رمضان دون سائر الشهور، بل قوله‏:‏ ‏(‏إذا كان مقيمًا لم يفطر‏)‏ يدل أن إفطاره لغاشيته قد يكون من صيامه التطوع، فيحتمل أن يبيت الفطر‏.‏

فإن قيل‏:‏ ويحتمل أن يبيت الصيام ثم يفطر لوراده بعد التبييت‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ يرد ذلك قوله‏:‏ ‏(‏ذلك الذى يلعب بصومه‏)‏ وقد زوج ابنته ولم يفطر، وقد دعاه عروة بن الزبير إلى وليمة فلم يفطر‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏لو أخبرتنى، ولكنى أصبحت صائمًا‏)‏ فكيف لم يغشاه‏؟‏ قال المهلب‏:‏ فأما إفطار سلمان لأبى الدرداء إذ بات عنده؛ فإنما كان ذلك لأن أبا الدرداء كان اسرف على نفسه فى العبادة وسرمد الصوم، فأراد سلمان أن يأخذ به طريق الرخصة فى الإفطار بعد التبييت، ألا ترى أن ذلك جائز عند جماعة العلماء فى الفرض إذا بيته فى السفر ثم أدركته مشقة الصوم أن له أن يفطر، فكيف التطوع‏؟‏ فأخذ سلمان بالرخصة، وأخذ ابن عمر بالشدة؛ لأنه رأى التبييت من العقود التى أمره الله بالوفاء بها‏.‏

وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك فى كتاب الصيام‏.‏